هيئة تنظيمية في هونج كونج تشدد معايير الحراسة لبورصات العملات المشفرة وسط تزايد المخاطر العالمية

تُعرف هونج كونج بكونها مركزاً مالياً عالمياً يتمتع ببيئة تنظيمية متقدمة، وقد تبنت خلال السنوات الماضية سياسات تهدف إلى جعلها وجهة رئيسية لشركات التكنولوجيا المالية (FinTech) ومشاريع البلوكشين. لكن مع التوسع الكبير في تداول العملات المشفرة وتزايد حالات الاختراقات والاحتيال عالمياً، بدأت السلطات التنظيمية في هونج كونج، وعلى رأسها “هيئة الأوراق المالية والعقود الآجلة” (SFC)، في إعادة النظر في معايير الأمان وحوكمة الحراسة لدى منصات التداول.
أهمية الحراسة في أسواق العملات المشفرة
الحراسة (Custody) في مجال العملات المشفرة تشير إلى آليات حفظ وتأمين الأصول الرقمية الخاصة بالمستخدمين، سواء كانت محافظ ساخنة (Hot Wallets) متصلة بالإنترنت أو محافظ باردة (Cold Wallets) غير متصلة. نظراً للطبيعة الرقمية لهذه الأصول، فإن حمايتها تتطلب بروتوكولات أمان مشددة، تشمل التشفير، والمصادقة متعددة العوامل، وإدارة المفاتيح الخاصة. أي ضعف في نظام الحراسة قد يؤدي إلى فقدان أموال العملاء أو تعرضهم للاختراق، وهو ما ينعكس سلباً على سمعة السوق.
خلفية القرارات الجديدة من هيئة SFC
أعلنت هيئة SFC عن مراجعة شاملة للمعايير المطبقة على بورصات العملات المشفرة المرخّصة في هونج كونج، خصوصاً فيما يتعلق بإجراءات الحراسة. هذه الخطوة تأتي بعد تقارير دولية حذّرت من زيادة معدلات الهجمات الإلكترونية على منصات التداول، إلى جانب انهيارات مؤسسات كبرى في القطاع بسبب سوء إدارة أموال العملاء. الهيئة شددت على أن المعايير الجديدة ستكون إلزامية لأي منصة تسعى للعمل في السوق أو الحفاظ على ترخيصها.
الدوافع وراء تشديد المعايير
هناك عدة عوامل دفعت الهيئة لاتخاذ هذه الخطوة، من أبرزها:
- تزايد الاختراقات العالمية: شهد عامي 2023 و2024 سلسلة من الاختراقات الكبرى التي كلفت المستثمرين مليارات الدولارات.
- انهيارات شركات كبرى: مثل حادثة FTX التي كشفت عن ضعف الحوكمة وفصل أموال العملاء.
- التزام دولي بالمعايير: سعي هونج كونج لمواءمة لوائحها مع توصيات مجموعة العمل المالي (FATF) والهيئات الدولية.
- حماية سمعة المركز المالي: حيث تريد هونج كونج تعزيز ثقة المستثمرين العالميين بأسواقها.
أبرز التغييرات في معايير الحراسة
تشمل التحديثات التنظيمية التي أقرتها الهيئة عدة نقاط جوهرية:
- نسبة الاحتفاظ في المحافظ الباردة: إلزام المنصات بحفظ نسبة لا تقل عن 98% من أصول العملاء في محافظ باردة غير متصلة بالإنترنت.
- تدقيق أمني إلزامي: إجراء اختبارات اختراق دورية وفحوصات أمنية من طرف ثالث معتمد.
- فصل أموال العملاء عن أموال الشركة: لضمان عدم استخدام أموال العملاء في عمليات الشركة التشغيلية أو الاستثمارية.
- إدارة المفاتيح متعددة التوقيع (Multi-Signature): لتقليل مخاطر الوصول غير المصرح به.
- خطط استجابة للطوارئ: بما في ذلك وجود تأمين ضد الاختراقات.
تأثير التشديدات على البورصات العاملة في هونج كونج
من المتوقع أن تواجه البورصات التي لم تكن ملتزمة بمعايير صارمة سابقاً تحديات كبيرة، سواء من حيث تكلفة الامتثال أو الوقت اللازم لتحديث أنظمتها. بعض الشركات الصغيرة قد تجد نفسها مضطرة للخروج من السوق أو الاندماج مع كيانات أكبر قادرة على تلبية المتطلبات الجديدة. أما البورصات الكبرى، فقد تعتبر هذه التغييرات فرصة لتعزيز ثقة العملاء وجذب المستثمرين المؤسسيين.
موقف مجتمع المستثمرين
رحّب الكثير من المستثمرين المؤسسيين بهذه الخطوة باعتبارها ضمانة إضافية لحماية أموالهم، خصوصاً بعد تجارب الخسائر الفادحة في الأسواق العالمية. لكن على الجانب الآخر، هناك تخوف بين بعض المتداولين الأفراد من أن تؤدي هذه المعايير إلى زيادة الرسوم أو تقليل مرونة الخدمات.
البعد الدولي للقرار
لا يمكن النظر إلى هذه التشديدات بمعزل عن المشهد العالمي، إذ إن عدة دول مثل سنغافورة، اليابان، والاتحاد الأوروبي اتخذت إجراءات مماثلة في السنوات الأخيرة. الخطوة تعكس رغبة هونج كونج في البقاء على خط واحد مع المراكز المالية المنافسة وضمان ألا تصبح بيئة ضعيفة أمام الجرائم المالية.
العلاقة بين الحراسة والابتكار
رغم أن تشديد المعايير قد يبدو للوهلة الأولى عائقاً أمام الابتكار، إلا أن الخبراء يرون أنه على المدى البعيد، سيؤدي إلى بيئة أكثر أماناً تشجع الشركات المبتكرة على الاستثمار دون خوف من مخاطر فقدان الثقة بالسوق. فالابتكار يحتاج إلى أرضية صلبة تحميه من الانهيارات المفاجئة.
تحديات الامتثال للمعايير الجديدة
من أبرز التحديات التي قد تواجه البورصات:
- تكاليف البنية التحتية: بناء أنظمة حراسة متقدمة يتطلب استثمارات ضخمة.
- نقص الكفاءات: الحاجة إلى خبراء أمن سيبراني متخصصين في البلوكشين.
- التوافق مع المعايير الدولية: حيث يجب أن تتطابق حلول الحراسة مع الأطر العالمية دون الإخلال بالقوانين المحلية.
- التوازن بين الأمان وسرعة المعاملات: حيث قد يؤدي الاعتماد الكبير على المحافظ الباردة إلى إبطاء عمليات السحب.
الفرص الناشئة من اللوائح
على الجانب الإيجابي، يمكن لهذه اللوائح أن تخلق فرصاً جديدة:
- شركات الحراسة المتخصصة: قد تنشأ شركات تقدم خدمات حفظ الأصول للبورصات.
- خدمات التدقيق الأمني: زيادة الطلب على شركات التدقيق والاختبارات الأمنية.
- التأمين على الأصول الرقمية: توسع سوق التأمين ضد الاختراقات.
مقارنة مع التشريعات في أسواق أخرى
- اليابان: لديها قوانين صارمة تلزم بحفظ معظم أموال العملاء في محافظ باردة وتفرض تأمينات إلزامية.
- سنغافورة: تركز على دمج الحراسة مع أنظمة مكافحة غسل الأموال.
- الاتحاد الأوروبي: من خلال لائحة MiCA، يفرض معايير حماية المستهلك وإدارة الأصول.
أثر القرار على مستقبل العملات المشفرة في هونج كونج
تشير التوقعات إلى أن هذه الخطوة قد تجعل هونج كونج أكثر جاذبية للمستثمرين المؤسسيين والشركات العالمية التي تبحث عن بيئة منظمة وآمنة. على المدى الطويل، قد يسهم ذلك في زيادة السيولة وتحسين جودة الخدمات، حتى لو كان على حساب خروج بعض اللاعبين الصغار من السوق.
رأي الخبراء
يرى المحللون أن القرارات الجديدة تمثل نقطة تحول مهمة في سوق الأصول الرقمية في هونج كونج، حيث تضع إطاراً واضحاً للحوكمة والمخاطر. ويشيرون إلى أن المستثمرين في الأصول الرقمية أصبحوا أكثر وعياً بأهمية الحماية بعد سلسلة الانهيارات التي شهدها السوق.
تُظهر الخطوة التي اتخذتها هيئة SFC في هونج كونج التزاماً واضحاً بحماية المستثمرين وضمان استقرار النظام المالي، في وقت تتزايد فيه التحديات والمخاطر في سوق العملات المشفرة العالمي. ورغم أن الامتثال لهذه المعايير قد يشكل عبئاً على بعض البورصات، فإن النتيجة النهائية ستكون سوقاً أكثر أماناً وموثوقية، ما يعزز مكانة هونج كونج كمركز مالي عالمي رائد في الأصول الرقمية.